فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال‏}‏‏.‏

‏{‏رِجَالٌ‏}‏ الخ استئناف لبيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور وذكر بعض أعمالهم القلبية والقالبية، فالجار والمجرور أعني متعلق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى بُيُوتٍ‏}‏ بيسبح وفيها تكرير لذلك جىء به للتأكيد والتذكير بما بعد في الجملة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام دون الحصر، ومثل ما ذكر في التكرير للتأكيد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَفِى رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 107‏]‏ وقولك مررت بزيد به، وبعض النحاة أعرب نحو ذلك بدلاً كما في «شرح التسهيل»، وفي «المغني» هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمراً وليس الجار والمجرور توكيداً للجار والمجرور لأن الظاهر لكونه أقوى لا يؤكد بالضمير، وليس المجرور بدلاً بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياساً، وأنت تعلم أن ما ذكر غير وارد لأن المجموع بدل أو توكيد، وأتى بالظاهر هرباً من التكرار، و‏{‏رِجَالٌ‏}‏ فاعل ‏{‏يُسَبّحُ‏}‏ وتأخيره عن الظروف لأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقال الرماني ‏{‏فِى بُيُوتٍ‏}‏ متعلق بـ ‏{‏يوقد‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وقال الحوفي‏:‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لـ ‏{‏مشكاة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وقيل هو صفة لمصباح، وقيل صفة لزجاجة، وهو على هذه الأقوال الأربعة تقييد للممثل به للمبالغة فيه، والتنوين في الموصوف للنوعية لا للفردية لينافي ذلك جمع البيوت‏.‏ وأورد على ما ذكر أن شيئاً منه لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ على ما هو الحق أو بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏ على مات قيل إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ كلام متعلق بالممثل قطعاً فتوسيطه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنوره تعالى بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصوداً بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلاً أن يحمل عليه الكلام المعجز‏.‏ وتعقبه الخفاجي بأنه زخرف من القول إذ لا فصل فيه وما قبله إلى هنا من المثل، والظاهر عندي أن التمثيل قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ وقيل هو متعلق بسبحوا أو نحوه محذوفاً» وتلك الجملة على ما قيل مترتبة على ما قبلها وترك الفاء للعلم به كما في نحو قم يدعوك، ومنعوا تعلقه بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله، والمراد بالبيوت المساجد كلها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال‏:‏ إنما هي أربع مساجد لم يبنهن إلا نبي، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعن الحسن أن المراد بها بيت المقدس والجمع من حيث أن فيه مواضع يتميز بعضها عن بعض وهو خلاف الظاهر جداً‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك‏.‏ وبريدة قال‏:‏ «قر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه الآية ‏{‏فِى بُيُوتٍ‏}‏ الخ فقام إليه عليه الصلاة والسلام رجل فقال أي بيوت هذه يا رسول الله‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ نعم من أفاضلها» وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أنها مطلقة تصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم، وجوز أن يراد بها صلاة المؤمنين أو أبدانهم بأن تشبه صلاتهم الجامعة للعبادات القولية والفعلية أو أبدانهم المحيطة بالأنوار بالبيوت المذكورة أعني المساجد ثم يستعار اسمها لذلك‏.‏ وتعقب بأنه لا حسن فيما ذكر وأظنك لا تكتفي بهذا المقدار من الجرح، والمراد بالإذن الأمر وبالرفع التعظيم أي أمر سبحانه بتعظيم قدرها، وروي هذا عن الحسن والضحاك، ولا يخفى أنه إذا أريد بها المساجد فتعظيم قدرها يكون بأشياء شتى كصيانتها عن دخول الجنب والحائض والنفساء ولو على وجه العبور وقد قالوا بتحريم ذلك وإدخال نجاسة فيها يخاف منها التلويث ولذا قالوا‏:‏ ينبغي لمن أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازاً عن تلويث المسجد، ومنع إدخال الميت فيها ومنع إدخال الصبيان والمجانين وهو حرام حيث غلب تنجيسهم وإلا فهو مكروه، وقد جاء الأمر بتجنيبهم عن المساجد مطلقاً‏.‏

أخرج ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع» ومنع إنشاد الضالة وإنشاد الأشعار، فقد أخرج الطبراني‏.‏ وابن السني‏.‏ وابن منده عن ثوبان قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد فقولوا فض الله تعالى فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا‏:‏ لا وجدتها ثلاث مرات» الحديث‏.‏ وينبغي أن يقيد المنع من إنشاد الشعر بما إذا كان فيه شيء مذموم كهجو المسلم‏.‏ وصفة الخمر‏.‏ وذكر النساء‏.‏ والمردان‏.‏ وغير ذلك مما هو مذموم شرعاً، وأما إذا كان مشتملاً على مدح النبوة والإسلام أو كان مشتملاً على حكمة أو باعثاً على مكارم الأخلاق والزهد ونحو ذلك من أنواع الخير فلا بأس بإنشاده فيها، ومنع القاء القملة فيه بعد قتلها وهو مكروه تنزيهاً على ما صرح به بعض المتأخرين، ويندب أن لا تلقى حية في المسجد، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن رجل من الأنصار قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرجها ‏"‏ ومنع البول فيها ولو في إناء وقد صرحوا بحرمة ذلك، وفي الأشباه وأما الفصد في المسجد في إناء فلم أره، وينبغي أن لا فرق أي لأن كلاً من البول والدم نجس مغلظ، ومنع القاء البصاق فيها‏.‏

وفي «البدائع» يكره التوضىء في المسجد لأنه مستقذر طبعاً فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم، وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في قبلة المسجد نخامة فقام إليها فحكها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثم دعا بخلوق فلطخ مكانها ‏"‏ فقال الشعبي‏:‏ هو سنة، وذكروا أن إلقاء النخامة فوق الحصير أخف من وضعها تحته فإن اضطر إليه دفنها، وفي حديث أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعاً ‏"‏ التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه ‏"‏ وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعاً أيضاً نحوه، ومنع الوطء فيها وفوقها كالتخلي وصرحوا بحرمة ذلك، ومنع دخول من أكل ذا رائحة كريهة فيها كالثوم والبصل والكراث وآكل الفجل إذا تجشأ كذلك، وقد كان الرجل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد منه ريح الثوم يؤخذ بيده ويخرج إلى البقيع، والظاهر أن الأبخر أو من به صنان مستحكم حكمه حكم آكل الثوم والبثل، وكذا حكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين، وعن مالك أن الزياتين يتأخرون ولا يتقدمون إلى الصف الأول ويقعدون في أخريات الناس، ومنع النوم والأكل فيها لغير معتكف، ومنع الجلوس فيها للمصيبة أو للتحدث بكلام الدنيا، ومنع اتخاذها طريقاً وهو مكروه أو حرام‏.‏ وقد جاء النهي عن ذلك في حديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن اتخاذها طريقاً من أشراط الساعة؛ وفي القنية معتاد ذلك يأثم ويفسق، نعم إن كان هناك عذر لم يكره المرور، ومن تعظيمها رشها وقمها، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن زيد ابن أسلم قال‏:‏ كان المسجد يرش ويقم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج عن يعقوب بن زيد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة؛ وكذا تعليق القناديل فيها وفرشها بالآجر والحصير، وفي «مفتاح السعادة» ولأهل المسجد أن يفرشوا المسجد بالآجر والحصير ويعلقوا القناديل لكن من مال أنفسهم لا من مال المسجد إلا بأمر الحاكم، ولعل محل ذلك ما لم يعين الواقف شيئاً من ريع الوقف لذلك، وينبغي أن يكون إيقاد القناديل الكثيرة فيها في ليالي معروفة من السنة كليلة السابع والعشرين من رمضان الموجب لاجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم وامتهانهم بالمساجد بدعة منكرة، وكذا ينبغي أن يكون فرشها بالقطائف المنقوشة التي تشوش على المصلين وتذهب خشوعهم كذلك، ومن التعظيم أيضاً تقديم الرجل اليمنى عند دخولها واليسرى عند الخروج منها، وصلاة الداخل ركعتين قبل الجلوس إذا كان دخوله لغير الصلاة على ما ذكره بعضهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«اعطوا المساجد حقها قيل‏:‏ وما حقها‏؟‏ قال‏:‏ ركعتان قبل أن تجلس» ومن ذلك أيضاً بناؤها رفيعة عالية لا كسائر البيوت لكن لا ينبغي تزيينها بما يشوش على المصلين، وفي حديث أخرجه ابن ماجه‏.‏ والطبراني عن جبير بن مطعم مرفوعاً أنها لا تبنى بالتصاوير ولا تزين بالقوارير‏.‏ وفسر بعضهم الرفع ببنائها رفيعة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏ والأولى عندي تفسيره بما سبق وجعل بنائها كذلك داخلاً في العموم ويدخل فيه أمور كثيرة غير ما ذكرنا وقد ذكرها الفقهاء وأطالوا الكلام فيها‏.‏

وزعم بعض المفسرين أن إسناد الرفع إليها مجاز، والمراد ترفع الحوائج فيها إلى الله تعالى، وقيل‏:‏ ترفع الأصوات بذكر الله عز وجل فيها، ولا يخفى ما فيه، وفي التعبير عن الأمر بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجهاً إلى المأمور به قبل الأمر به ناوياً لتحقيقه كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الأمر فيه، والمراد بذكر اسمه تعالى شأنه ما يعم جميع أذكاره تعالى، وجعل من ذلك المباحث العلمية المتعلقة به عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به توحيده عز وجل وهو قول‏:‏ لا إله إلا الله، وعنه أيضاً المراد تلاوة كتابه سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ ذكر أسمائه تعالى الحسنى‏.‏ والظاهر ما قدمنا، وعطف الذكر على الرفع من قبيل عطف الخاص على العام فإن ذكر اسمه تعالى فيها من أنواع تعظيمها، وليس من عطف التفسير في شيء خلافاً لمن توهمه، والتسبيح التنزيه والتقديس ويستعمل باللام وبدونها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ والمراد به إما ظاهره أو الصلاة لاشتمالها عليه وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ والضحاك‏.‏

وعن ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة، وأيد إرادة الصلاة هنا تعيين الأوقات بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏ والغدو جمع غداة كفتى وفتاة أو مصدر أطلق على الوقت الغدو، وأيد بأن أبا مجلز قرأ ‏{‏والإيصال‏}‏ مصدراً أي الدخول في وقت الأصيل، و‏{‏الآصال‏}‏ كما قال الجوهري جمع أصيل كشريف وأشراف، واختاره جماعة مع أن جمع فعيل على أفعال ليس بقياسي‏.‏

واختار الزمخشري أنه جمع أصل كعنق وأعناق؛ والأصل كالأصيل العشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح فيشمل الأوقات ما عدا الغداة وهي من أول النهار إلى الزوال ويطلقان على أول النهار وآخره، وإفرادهما بالذكر لشرفهما وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأشغال‏.‏ وعن ابن عباس أنه حمل الغداة على وقت الضحى وهو مقتضى ما أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان عنه رضي الله تعالى عنه من قوله‏:‏ «إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها الاغواص وتلا الآية حتى بلغ الآصال‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو بكر‏.‏ والبحتري عن حفص‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب‏.‏ والمفضل وأبان ‏{‏إِلاَّ يُسَبّحُ‏}‏ بالياء التحتية والبناء للمفعول ونائب الفاعل ‏{‏لَهُ‏}‏ أو ‏{‏فِيهَا‏}‏ إن لم يتعلق ‏{‏فِى بُيُوتٍ‏}‏ به أو ‏{‏بالغدو‏}‏ والأولية للأول لأنه ولى الفعل والاسناد إليه حقيقي دون الأخيرين‏.‏ وجوز أن يكون المجرور فيما ذكر نائب الفاعل والجار فيه زائداً، وفيه ارتكاب لما لا داعي إليه، ورفع ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ على هذه القراءة على أنه فاعل لفعل محذوف أو خبر متدأ محذوف على ما في البحر أي يسبح له أو المسبح له رجال‏.‏ والجملة استئناف بياني وقع جواباً لسؤال نشأ من الكلام السابق‏.‏ وهذا نظير قوله‏:‏ ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح

وهو قياسي عند الكثير فيجوز عندهم أن يقال‏:‏ ضربت هند زيد بتقدير ضربها أو ضاربها زيد‏.‏ وليس هذا كذكر الفاعل تمييزاً بعد الفعل المبني للمفعول نحو ضرب أخوك رجلاً المصرح بعدم جوازه ابن هشام في الباب الخامس من المغنى وإن أوهمت العلة أنه مثله فتأمّل‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن وثاب ‏{‏تُسَبّحُ‏}‏ بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ والتأنيث لأن جمع التكثير كثيراً ما يعامل معاملة المؤنث، وقرى أبو جعفر ‏{‏تُسَبّحُ‏}‏ بالتاء الفوقية والبناء للمفعول وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ على أن الباء زائدة والإسناد مجازي بجعل الأوقات المسبح فيها ربها مسبحة، وجوز أبو حيان أن يكون الإسناد إلى ضمير التسبيحة الدالة عليه ‏{‏تُسَبّحُ‏}‏ أي تسبح هي أي التسبيحة كما قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِىَ قَوْماً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ على قراءة من بني ‏{‏يجزى‏}‏ للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء‏.‏ قال في إرشاد العقل السليم‏:‏ وهذا أولى من التوجيه الأول إذ ليس هنا مفعول صريح‏.‏ وضعفه بعضهم هنا بأن الوحدة لا تناسب المقام، وأجيب بالتزام كون الوحدة جنسية‏.‏

وأياً ما كان فرفع ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ على هذه القراءة على الفاعلية أو الخبرية كما سمعت آنفاً‏.‏ والتنوين فيه على جميع القراءات للتفخيم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة‏}‏ صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائناً مّا كان‏.‏ وتخصيص الرجال بالذكر لأنهم الأحقاء بالمساجد‏.‏ فقد أخرج أحمد‏.‏ والبيهقي عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وتخصيص التجارة التي هي المعاوضة مطلقاً بذلك لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ‏{‏وَلاَ بَيْعٌ‏}‏ أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الربح‏.‏ وأفرادهم بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كرر كلمة ‏{‏لا‏}‏ لتذكير النفي وتأكيده، وجوز أن يراد بالتجارة المعاوضة الرابحة وبالبيع المعاوضة مطلقاً فيكون ذكره بعدها من باب التعميم بعد التخصيص للمبالغة، ونقل عن الواقدس أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه أصلها ومبدؤها فلا تخصيص ولا تعميم، وقيل‏:‏ المراد بالتجارة الجلب لأنه الغالب فيها فهو لازم لها عادة‏.‏ ومنه يقال‏:‏ تجر في كذا أي جلبه‏.‏ ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر‏:‏ هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله تعالى‏.‏

وأخرج الديلمي‏.‏ وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه، وفي ذلك أيضاً ما يقتضي أنهم كانوا تجاراً وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية لأنه لا يقال فلان لا تلهيه التجارة إلا إذا كان تاجراً وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏

أخرج الطبراني‏.‏ وابن مردويه عنه أنه قال‏:‏ أما والله لقد كانوا تجاراً فلم تكن تجارتهم ولا يبعهم يلهيهم عن ذكر الله تعالى، وبه قال الضحاك، وقيل‏:‏ إنهم لم يكونوا تجاراً والنفي راجع للقيد والمقيد كما في قوله‏:‏ على لا حب لا يهتدي بمناره *** كأنه قيل‏:‏ لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم فإن الآية نزلت فيمن فرغ عن الدنيا كأهل الصفة، وأنت تعلم أن الآية على الأول المؤيد بما سمعت أمدح ولم نجد لنزولها فيمن فرغ عن الدنيا سنداً سنداً قوياً أو ضعيفاً ولا يكتفي في هذا الباب بمجرد الاحتمال ‏{‏عَن ذِكْرِ الله‏}‏ بالتسبيح والتحميد ونحوهما ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏ أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير‏.‏ والأصل أقوام فنقلت حركة الواو لما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فقيل‏:‏ إقام، وعن الزجاج أنه قلبت الواو القائم حذف لاجتماع ألفين‏.‏

وأورد عليه أنه لا داعي إلى قلبها ألفا مع فقد شرطه وهو أن لا يسكن ما بعدها‏.‏ وأوجب الفراء لجواز هذا الحذف تعويض التاء فيقال‏:‏ إقامة أو الإضافة كما هنا‏.‏ وعلى هذا جاء قوله‏:‏ إن الخليط أجدوا البين وانجردوا *** وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا

فإنه أراد عدة الأمر‏.‏ وتأول خالد بن كلثوم ما في البيت على أن عدا جمع عدوة بمعنى ناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه‏.‏ ومذهب سيبويه جواز الحذف من عير تعويض التاء أو الإضافة ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً‏}‏‏.‏

المال الذي فرض إخراجه للمستحقين كما روي عن الحسن‏.‏ ويدل على تفسير الزكاة بذلك دون الفعل ظاهر إضافة الإيتاء إليها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير إيتاء الزكاة بإخلاص طاعة الله تعالى وفيه بعد كما ترى، وإيراد هذا الفعل ههنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد‏.‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخَافُونَ‏}‏ إلى آخره فإنه صفة أخرى لرجال أو حال من مفعول ‏{‏لاَّ تُلْهِيهِمْ‏}‏ أو استئناف مسوق للتعليل‏.‏ وأياً مّا كان فليس خوفهم مقصوراً على كونهم في المساجد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْماً‏}‏ مفعول ليخافون على تقدير مضاف أي عقاب يوم وهو له أو بدونه وجعله ظرفاً لمفعول محذوف بعيد وأما جعله ظرفاً ليخافون والمفعول محذوف فليس بشسيء أصلاً إذ المراد أنهم يخافون في الدنيا يوماً ‏{‏تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والابصار‏}‏ لا أنهم يخافون شيئاً في ذلك اليوم الموصوف بأنه تتقلب فيه الخ، والمراد به يوم القيامة ومعنى تقلب القلوب والأبصار فيه اضطرابها وتغيرها أنفسها فيه من الهول والفزع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الابصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ أو تغير أحوالها بأن تفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر أو بأن تتوقع القلوب النجاة تارة وتخاف الهلاك أخرى وتنظر الأبصار يميناً تارة وشمالاً أخرى لما أن أغلب أهل الجمع لا يدرون من أي ناحية يؤخذ بهم ولا من أي حهة يؤتون كتبهم، وقيل‏:‏ المراد تقلب فيه القلوب والأبصار على جمر جهنم وليس بشيء، ومثله قول الجبائي‏:‏ أن المراد تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها، وقرأ ابن محيصن ‏{‏تَتَقَلَّبُ‏}‏ بإسكان التاء الثانية‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ الله‏}‏ متعلق على ما استظهره أبو حيان بـ ‏{‏يسبح‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏ وجوز أبو البقاء أن يتعلق بلا تلهيهم أو بيحافون ولا يخفى أن تعلقه بأحد المذكورين محوج إلى تأويل، ولعل تعلقه بفعل محذوف يدل عليه ما حكى عنهم أولى من جميع ذلك أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ‏}‏ واللام على سائر الأوجه للتعليل وقال أبو البقاء‏:‏ يجوز أن تكون لام الصيرورة كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وموضع الجملة حال والتقدير يخافون ملهمين ليجزيهم الله وهو كما ترى، والجزاء المقابلة والمكافأة على ما يحمد ويتعدى إلى الشخص المجزي بعن قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ وإلى ما فعله ابتداء بعلى تقول جزيته على فعله وقد يتعدى إليه بالباء فيقال جزيته بفعله وإلى ما وقع في مقابلته بنفسه وبالباء، قال الراغب‏:‏ يقال جزيته كذا وبكذا، والظاهر أن أحسن هو ما وقع في المقابلة فيكون الجزاء قد تعدى إليه بنفسه ويحتاج إلى تقدير مضاف أي ليجزيهم أحسن جزاء عملهم أو الذي عملوه حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ليكون الأحسن من جنس الجزاء‏.‏

وجوز أن يكون الأحسن هو الفعل المجزي عليه أو به الشخص وليس هناك مضاف محذوف والكلام على حذف الجار أي ليجزيهم على أحسن أو بأحسن ما عملوا‏.‏ وأحسن العمل أدناه المندوب فاحترز به عن الحسن وهو المباح إذ لا جزاء له ورجح الأول بسلامته عن حذف الجار الذي هو غير مقيس في مثل ما نحن فيه بخلاف حذف المضاف فإنه كثير مقيس، وجوز أن يكون المضاف المحذوف قبل «أحسن» أي جزاء أحسن ما عملوا، والظاهر أن المراد بما عملوا أعم مما سبق وبعضهم فسره به ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم يخطر ببالهم كيفياتها ولا كميتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عنه عز وجل‏:‏ ‏"‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ‏"‏ إلى غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ فإنه تذييل مقرر للزيادة ووعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب والموصول عبارة عمن ذكرت صفاهم الجميلة كأنه قيل والله يرزقهم بغير حساب، ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره عز وجل وللإيذان بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء سبحانه أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميعها من آثار الهداية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف والذين كفروا ‏{‏أعمالهم كَسَرَابٍ‏}‏ أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة وسقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الاضياف ونحو ذلك على ما قيل، وقيل أعمالهم التي يظنون الانتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم، وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك، والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجاري واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض، وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في قيافي الأرض المنبسطة، وقيل‏:‏ هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب، قال الشاعر‏:‏ فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الفلا متألق

وإلى هذا ذهب الطبرسي، وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار ‏{‏بِقِيعَةٍ‏}‏ متعلق بمحذوف هو صفة سراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية، وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار، وقرأ مسلمة بن محارب ‏{‏بقيعات‏}‏ بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضاً أنه قرأ ‏{‏بقيعاة‏}‏ بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا‏:‏ البناه والأخواه، ويحتمل كما قال صاحب اللوامح أن يكون مفرداً وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف ‏{‏يَحْسَبُهُ الظمان‏}‏ صفة أخرى لسراب‏.‏

وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفاً لما يتعلق به الكاف وهو الخبر؛ والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهما الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم باحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائناً من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفية في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع المؤيس‏.‏

وقرأ سيبة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ ونافع بخلاف عنهما ‏{‏يَحْسَبُهُ الظمان‏}‏ بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ‏{‏حتى إِذَا جَاءهُ‏}‏ أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء، وقيل إذا جاء موضعه لَمْ يَجدْهُ‏}‏ أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به ‏{‏‏}‏ أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به ‏{‏شَيْئاً‏}‏ أصلا لا محققاً ولا مظنوناً كان يراه من قبل فضلاً عن وجه أنه ماء، ونصب ‏{‏شَيْئاً‏}‏ قيل على الحالية، وأمر الاشتقاق سهل، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن، وجوز أن يكون منصوباً على البدلية من الضمير، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيداً كما صرح به الرضى، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجداناً وهو كما ترى ‏{‏وَوَجَدَ الله عِندَهُ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لَمْ يَجِدْهُ‏}‏ فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور، وقيل أي وجد الله تعالى محاسباً إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ‏}‏ أي أعطاه وافياً كاملاً حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لا يشغله حساب عن حساب‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ‏}‏ الخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن‏.‏ ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلاً فليست الجملة معطوفة على ‏{‏لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً‏}‏ بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عيناً ولا أثراً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئاً كأنه قيل‏:‏ حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئاً ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل‏:‏ عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافياً حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعاً، وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا افراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى، ورلا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر‏.‏

وأياً ما كان فالمراد بالظمآن مطلق الظمآن، وقيل المراد به الكافر، وإليه ذهب الزمخشري قال‏:‏ شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما أخرجه عبد بن حميد‏.‏

وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم من طريق السدى في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب» واستطيب ذلك العلامة الطبي حيث قال‏:‏ إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ الله عِندَهُ‏}‏ الخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء بنفسه‏.‏ ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العناد‏.‏

والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ لأنه غير خاص بسبب النزول وإن خذل فيه دخولاً أولياً، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيراً من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلاً، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزيين بزي الإسلام فإن اعتقاداتهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ كظلمات‏}‏ عطف على ‏{‏كَسَرَابٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏، وكلمة أو قيل لتقسيم حال أعمالهم الحسنة، وجوز الإطلاق باعتبار وقتين فإنها كالسراب في الآخرة من حيث عدم نفعها وكالظلمات في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق، وخص هذا بالدنيا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ فإنه ظاهر في الهداية والتوفيق المخصوص بها، والأول بالآخرة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ الخ وقدم أحوال الآخرة التي هي أعظم وأهم لاتصال ذلك بما يتعلق بها من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 38‏]‏ الخ ثم ذكر أحوال الدنيا تتميما لها‏.‏

وجوز أن يعكس ذلك فيكون المراد من الأول تشبيه أعمالهم بالسراب في الدنيا حال الموت، ومن الثاني تشبيهها بالظلمات في القيامة كما في الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة» ويكون ذلك ترقياً مناسباً للترتيب الوقوعي وليس بذلك لما سمعت، وقيل للتنويع، وذلك أنه أثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بالظلمات المذكورة، وزعم الجرجاني أن المراد هنا تشبيه كفرهم فقط وهو كما ترى‏.‏ والظاهر على التنويع أن يراد من الأعمال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعمالهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ ما يشمل النوعين‏.‏

واعترض بأنه يأبى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ بناء على دخوله في التشبيه لأن أعمالهم الصالحة وإن سلم أنها لا تنفع مع الكفر لا وخامة في عاقبتها كما يؤذن به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏شَيْئاً وَوَجَدَ‏}‏ الخ‏.‏ وأجيب بأنه ليس فيه ما يدل على أن سبب العقاب الأعمال الصالحة بل وجد أن العقاب بسبب قبائح أعمالهم لكنها ذكرت جميعها لبيان أن بعضها جعل هباء منثور أو بعضها معاقب به، وجوز أن تكون للتخيير في التشبيه لمشابهة أعمالهم الحسنة أو مطلقا السراب لكونها لاغية لا منفعة فيها، والظلمات المذكورة لكونها خالية عن نور الحق، واختاره الكرماني‏.‏

واعترض بأن الرضى كغيره ذكر أنها لا تكون للتخيير إلا في الطلب‏.‏ وأجيب بأنه وإن اشتهر ذلك فقد ذهب كثير إلى عدم اختصاصه به كابن مالك‏.‏ والزمخشري ووقوعه في التشبيه كثير، وأياً ما كان فليس في الكلام مضاف محذوف‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ فيه مضاف محذوف والتقدير أو كذي ظلمات، ودل عليه ما يأتي من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ‏}‏ والتشبيه عنده هنا يحتمل أن يكون للأعمال على نمط التشبيه السابق ويقدر أو كأعمال ذي ظلمات‏.‏ ويحتمل أن يكون للكفرة ويقدر أو هم كذي ظلمات والكل خلاف الظاهر، وأمر الضمير سيظهر لك إن شاء الله تعالى‏.‏

وقرأ سفيان بن حسين ‏{‏أَوْ كظلمات‏}‏ بفتح الواو، ووجه ذلكفي البحر بأنه جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام‏.‏

وقيل هي ‏{‏أَوْ‏}‏ التي في قراءة الجمهور وفتحت الواو للمجاورة كما كسرت الدال لها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ على بعض القراآت ‏{‏فِى بَحْرٍ لُّجّىّ‏}‏ أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر‏.‏ وقيل اللجة وهي أيضاً معظمه وهو صفة ‏{‏بَحْرٍ‏}‏ وكذا جملة قوله تعالى ‏{‏يغشاه‏}‏ أي يغطي ذلك البحر ويستره بالكلية ‏{‏مَوْجٍ‏}‏ وقدمت الأولى لافرادها‏.‏ وقيل الجملة صفة ذي المقدر والضمير راجع إليه، وقد علمت حال ذلك التقدير وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ‏}‏ جملة من بمتدأ وخبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة الجار والمجرور وما بعده فاعل له لاعتماده على الموصوف‏.‏ والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ‏}‏ صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب ‏{‏ظلمات‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات ‏{‏بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ أي متكاثفة متراكمة، وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ بيان لغايةّ قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده‏.‏

وأجاز الحوفي أن يكون ‏{‏ظلمات‏}‏ مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏‏.‏ وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات كثيرة أو عظيمة وهو تكلف‏.‏ وأجاز أيضاً أن يكون ‏{‏بَعْضَهَا‏}‏ بدلاً من ‏{‏ظلمات‏}‏‏.‏ وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله تعالى أعلم الأخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير أخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة‏.‏ وقرأ قنبل ‏{‏ظلمات‏}‏ بالجر على أنه بدل من ‏{‏ظلمات‏}‏ الأولى لا تأكيد لها‏.‏ وجملة ‏{‏بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ في موضع الصفة له‏.‏ وقرأ البزي ‏{‏سَحَابٌ ظلمات‏}‏ بإضافة سحاب إلى ظلمات وهذه الإضافة كالإضافة في لجين الماء أو لبيان أن ذلك السحاب ليس سحاب مطر ورحمة‏.‏

‏{‏إِذَا أَخْرَجَ‏}‏ أي من ابتلى بها، واضماره من غير ذكر لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة‏.‏ وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ‏{‏ظلمات‏}‏ واحتيج إليه لأن جملة ‏{‏إِذَا أَخْرَجَ‏}‏ الخ في موضع الصفة لظلمات ولا بد لها من رابط ولا يتعين ما أشرنا إليه‏.‏

وقيل‏:‏ ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل على حد «لا يشرب الخمر وهو مؤمن» أي إذا أخرج المخرج فيها ‏{‏يَدَهُ‏}‏ وجعلها بمرأى منه قريبة من عينيه لينظر إليها ‏{‏لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا‏}‏ أي لم يقرب من رؤيتها وهي أقرب شيء إليه فضلاً عن أن يراها‏.‏ وزعم ابن الأنباري زيادة ‏{‏يَكَدْ‏}‏‏.‏ وزعم الفراء‏.‏ والمبرد أن المعنى لم يرها إلا بعد الجهد فإنه قد جرى العرف أن يقال‏:‏ ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد فعل بجهد مع استبعاد فعله وعليه جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ ومن هنا خطأ ابن شبرمة ذا الرمة بقوله‏:‏ إذا غير النأي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى من حب مية يبرح

وناداه يا أبا غيلان أراه قد برح ففك وسلم له ذو الرمة ذلك فغير لم يكد بلم يكن أو لم أجد، والتحقيق أن الذي يقتضيه لم يكد وما كان يفعل أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب في الظن أن يكون ولا يشك في هذا‏.‏

وقد علم أن كان موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالاً يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَبَحُوهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ الخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلاً عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت، وقد ذكر أن لم يكذ فيهما جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ فيكون مستقبلاً وإذا قلت‏:‏ إذاّخرجت لم أخرج فقد نفيت خروجاً في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان‏.‏

وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الاعجاز، ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي‏.‏

وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته يدل على نفيه بطريق برهاني إلا أنه إذا وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل وربما أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة، وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي كانت نصب عينيه، ثم فرع على هذا أن لك أن تقول‏:‏ إن مراد من قال‏:‏ إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت، وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمة لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال‏:‏ إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فيكف خفى ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصى بحفظ ذلك حيث قال‏:‏ فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح بمحض اللطف والتوفيق انتهى‏.‏

ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفي كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فيا ليت شعري هل دفع الإيهام ما عير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت بمحض خلق الله تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أولا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئى أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت بانطباع شبح المرئى في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون، وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للاشراقيين منهم‏.‏

واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقلية وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع، واختار الملا صدرا أنها بانشاء صورة مماثلة للمرئى بقدرة الله تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله، وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة وربما يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل‏.‏ ونفي ابن سينا ذلك وقال‏:‏ لا يمكن أن تكون الظلمة شرطاً لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقاً، وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة، وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف، فإما في الليل فليس هناك ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى، وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى، ويمكن أن يقال‏:‏ إن ضوء الشمس على ما ذكر مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل والله تعالى أعلم بحقائق الأمور‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ اعتراض تذييلي جىء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره، وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله تعالى أن يهديه الله سبحانه لنوره في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلاً فيها، وقيل‏:‏ معنى الآية من لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ كلا الأمرين في الآخرة، والمعنى من لم ينوره الله تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم‏.‏ والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض، ومنهم من اعتبر ذلك فقال‏:‏ الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجى صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القعر الكثير الخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة‏.‏ والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ ما قيل إن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ إشارة إلى أنه ينبغي للشيخ إذا أراد تأديب المريد وكسر نفسه الأمارة أن يؤد به بمحضر طائفة من المريدين الذين لا يحتاجون إلى تأديب‏.‏ ومن هنا قال أبو بكر بن طاهر‏:‏ لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع، والزنا عندهم إشارة إلى الميل للدنيا وشهواتها، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏ الخ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ الخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للأخيار معاشرة الأشرار، إن الطيور على أشباهها تقع‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 11‏]‏ إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يشنع عليه المنكرون من المشايخ أن يحزن من ذلك ويظنه شراً له فإنه خير له موجب لترقيه‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏ الخ إشارة إلى أنه ينبغي للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا أصحاب العثرات وأهل الزلات من المريدين وأن لا يقطعوا إحسانهم وفيوضاتهم عنهم، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك، وأطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم فقال‏:‏ ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالباً الإذن ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلا فليرجع، وهذا هو المعنى بأدب الزيارة عندهم ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح‏.‏ والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أو نحوه ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهو أيضاً مما لم نعرفه عن أحد من السلف ولا ذكره فقهاؤنا وما أظنه إلا بدعة ولا يعد فاعلها إلا مضحكة للعقلاء، وكون المزور حياً في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حياً كما لا يخفى‏.‏ وقد رأيت بعد كتابتي هذه في «الجوهر المنتظم» في زيارة القبر المعظم صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه، قال بعضهم‏:‏ وينبغي أن يقف يعني الزائر بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء انتهى‏.‏

وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى‏.‏ ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى فاحفظ ذاك والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك‏.‏ وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏ الخ إن فيه أمراً بغض بصر النفس عن مشتيهات الدنيا وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وبصر السر عن الدرجات والقربات وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى وبصر الهمة عن أن يرى نفسه أهلاً لشهود الحق تنزيهاً له تعالى وإجلالاً، وأمراً بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه، والإشارة بأمر النساء بعدم إبداء الزينة إلا لمن استثنى إلى أنه لا ينبغي لمن تزين بزينة الإسرار أن يظهرها لغير المحارم ومن لم يسترها عن الأجانب‏.‏

وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ‏}‏ الخ إلى النكاح المعنوي وهو أن يودع الشيخ الكامل في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الإلهي‏.‏ وقد أشير إلى هذا الاستعداد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ ثم قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ‏}‏ أي ليحفظ ‏{‏الذين لاَ يَجِدُونَ‏}‏ شيخاً في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان ‏{‏حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ بأن يوفق لهم شيخاً كاملاً أو يخصهم سبحانه بجذبة من جذباته، وأشير بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يَبْتَغُونَ الكتاب‏}‏ الخ إلى أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الخير وهو التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة وصدق العمل والوفاء بالعهد ووجب أن يؤتى بعض المواهب التي خصها الله تعالى بها الشيخ، وأشير بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ الخ إلى أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا لم تكره عليه‏.‏ ولهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نُورُ السموات والارض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ كلام طويل عريض وفيما قدمنا ما يصلح أن يكون من هذا الباب، وذكر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏ مما يدخل في عمومه أهل الطريقة العلية النقشبندية الذين حصل لهم الذكر القلبي ورسخ في قلوبهم بحيث لا يغفلون عنه سبحانه في حال من الأحوال وهذا وإن ثبت لغيرهم أيضاً من أرباب الطرائق فإنما يثبت في النهايات دون المبادىء كما يثبت لأهل تلك الطريقة‏.‏ وفي مكتوبات الإمام الرباني قدس سره ما يغني عن الإطالة في شرح أحوال هؤلاء القوم وبيان منزلتهم في الذكر والحضور بين سائر الأقوام حشرتا الله تعالى وإياهم تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ إشارة لما ورد في حديث «خلق الله تعالى الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه منه اهتدى ومنه أخطأه ضل» والله تعالى الموفق لصالح العمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السموات والارض‏}‏ الخ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم للإيذان كما في إرشاد العقل السليم بأن الله تعالى قد أفاض عليه أعلى مراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها‏.‏ وقال الطبرسي‏.‏ هو بيان للآيات التي جعلها نوراً والخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد به جميع المكلفين والهمزة للتقرير والرؤية هنا بمعنى العلم والظاهر أن إطلاقها عليه حقيقة‏.‏ وقيل هي حقيقة في الإبصار وإطلاقها على العلم استعارة أو مجاز لعلاقة اللزوم، وأياً ما كان فالمراد لم تعلم بالوحي أو بالمكاشفة أو بالاستدلال أن الله تعالى ينزهه آناً فآناً في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل تنزيهاً معنوياً تفهمه العقول السليمة جميع من في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم كائناً ما كان فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركباً كان أو بسيطاً فهو من حيث ذاته ووجوده وأحواله المتجددة له يدل على صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال منزه عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة وقد نبه سبحانه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلاً للسان الحال منزلة لسان المقال وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضاً لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الكفرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له سبحانه في الألوهية ونسبتهم إياه عز وجل إلى اتخاذ الولد ونحو ذلك مما تعالى الله عنه علواً كبيراف، وإطلاق من على العقلاء وعيرهم بطريق التغليب، ولا يغني عن اعتباره أو اعتبار مجاز مثله إسناد التسبيح المختص بالعقلاء بحسب الظاهر كما توهمه بعض الأجلة، وحمل بعضهم التسبيح على معنى مجازي شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم ويسمى عموم المجاز‏.‏ ورد بأن بعضاً من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعاً وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضاً‏.‏ وفي ذلك من تخطئتهم وتعييرهم ما فيه، والقول بأن الكفرة يسبحون كالمؤمنين لكن من حيث لا يشعرون كما قال الحلاج‏:‏ جحودي لك تقديس مما لا يقبله ذوو العقول وحري بأن لا يكون من المقبول، وقال بعضهم إذا كانت من للتغليب يندرج في عمومها العقلاء المطيعون والعقلاء العاصون وغير العقلاء مطلقاً فيحمل التسبيح على معنى مجازي يصح نسبته إلى كل مما ذكر وأي مانع من ذلك وهو كما ترى‏.‏

واستظهر أبو حيان إبقاء التسبيح على ظاهره وتخصيص من بالعقلاء المطيعين وما ذكر أولاً أولى‏.‏

‏{‏والطير‏}‏ بالرفع عطفاً على ‏{‏مِنْ‏}‏ وتخصيصها بالذكر عليه مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استمرار قرارها فيها واستقلالها بصنع بارع وإنشار رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح إنبائها عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقييد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صافات‏}‏ أي تسبحه الطير حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما يتمكن به من الوقوف في الجو والحركة كيف شاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يميناً وشمالاً ونحو ذلك حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدىء المعيد، والعطف على ما استظهره أبو حيان على ‏{‏مِنْ‏}‏ أيضاً وقد صرح بذلك، ونقل عن الجمهور أن تسبيحها حقيقي وظاهره أنه على نحو تسبيح العقلاء من الثقلين، ولعل ملتزم ذلك لا يلتزم وجوب كون التسبيح الحقيقي بالألفاظ المألوفة لنا وإلا لا يتسنى القول بأن تسبيحها حقيقي مع هذا الوجوب لفقد الألفاظ المألوفة لنا منها، ويجوز أن يقال‏:‏ إنه تعالى ألهم الطير تسبيحاً مخصوصاً يليق بها هو غير التسبيح الحالي الذي هو الدلالة السابقة ويقدر فعل رافع لها يراد منه ذلك المعنى الملهم أي ويسبح الطير، وتخصيص تسبيحها بذلك المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجوداً وأقرب حملاً على التسبيح لكن التقييد بالحال على هذا حاله في الحسن دون حاله على ما سبق‏.‏

وقرأ الأعرج ‏{‏والطير‏}‏ بالنصب على أنه مفعول معه، وقرأ الحسن‏.‏ وخارجة عن نافع ‏{‏والطير صافات‏}‏ برفعهما على الابتداء والخبرية، والظاهر على هذه القراءة أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ خبر بعد خبر وعلى قراءة الجمهور استئناف جىء به لبيان كمال عراقة كل واحد مما ذكر من الطير وما اندرج في عموم ‏{‏مَن فِى السموات والارض‏}‏ في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية، وقد أدمج سبحانه في تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه عز وجل لما يهمه بلسان استعداده، وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته بمعزل عن استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يليق بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداءً وبقاءً فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه في كل آن من فنون الفيوض المتعلقة بذاته وصفاته ما لا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الربانية من العلاقة لانعدم بالمرة، وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل، وتقديمها على التسبيح في الذكر لتقدمها عليه في الرتبة كذا في إرشاد العقل السليم، والكلام عليه استعارة تمثيلية والمضاف إليه الذي ناب عنه تنوين ‏{‏كُلٌّ‏}‏ ما يشمل المذكور المصرح به والمندرج تحت العموم حتى الجماد وضمير ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ وكذا ضميرا ‏{‏صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ لكل واحد وإليه ذهب الزجاج‏.‏

وزعم بعضهم أنه يكون في ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ على ذلك استعارة تبعية وقال في بيان ذلك‏:‏ إنه يشبه دلالة كل واحد من المذكورين على الحق بلسان الحق والمقال وميل كل منهم إلى النفع اختياراً أو طبعاً بعلم التسبيح والصلاة فيطلق على كل واحد من تلك الدلالة والميل اسم العلم على سبيل الاستعارة ويشتق منه لفظ علم، ومن له أدنى ذوق لا يرتضيه، وجوز أيضاً أن يكون الصلاة مجازاً عن الميل والتسبيح مجازاً عن الدلالة ومع هذا قيل إنه وإن صح غير مناسب للتمثيل، وزعم بعض أن الأولى أن يجعل المضاف إليه غير شامل لجماد وليس بذاك، وجوز أن يكون ضميرا ‏{‏صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ لله تعالى على أن الإضافة للمفعول، وجوز أن يكون لكل واحد مما في السموات والأرض ويكون ضمير ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ لله عز وجل، وقال غير واحد‏:‏ يجوز أن لا يكون هناك استعارة والعلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك ويراد بما ناب عنه التنوين أنواع الطير أو أفرادها وبالصلاة والتسبيح ما ألهمه الله عز وجل كل واحد من الدعاء والتسبيح المخصوصين به، ولا بعد في هذا الإلهام فقد ألهم سبحانه كل نوع من أنواع الحيوانات علوماً دقيقة لا يكاد يهتدي إليها جهابذة العقلاء وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره أصلاً كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الحيوانات من الإدراك قالوا‏:‏ إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل إلى جحره، والجملة على هذا لبيان كمال الرسوخ في الأمرين وأن صدورهما عن الطير ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإتقان نظير ما مر لكن لا على سبيل التمثيل، وقدر فعل رافع للطير عليه أي ويسبح الطير كما تقدم ولم تجعل معطوفة على ‏{‏مِنْ‏}‏ مرفوعة برافعها قيل لأنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح الدال عليه الفعل المذكور معنى مجازي شامل للتسبيح المقالي والحالي من العقلاء وغيرهم، وقد تقدم ما فيه، وجوز جعل ما ناب عنه التنوين ما يشمل الطير وغيره من المندرج في العموم السابق، وفيه أن مما اندرج في العموم الجماد ولا ينسب إليه العلم وإن كان بمعنى مطلق الإدراك والتزم أن له علماً وأنه سبحانه ألهمه صلاة وتسبيحاً لائقين به مما لا يرتضيه كثير من الناس، وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام في سورة الإسراء فتذكر‏.‏

وجوز بعضهم على تقدير حمل العلم على المعنى الحقيقي أن يكون عطف التسبيح على الصلاة من عطف التفسير، وأنت تعلم أنه إذا قيل ذلك على ذلك التقدير فما المانع من قبوله على التقدير السابق من جعل الاستعارة تمثيلية، نعم يفوت حينئذٍ الإدماج الذي أشير إليه فيما مر وهو ليس بمانع، والحق أن احتمال التفسير بعيد ولا داعي إلى ارتكابه بل يفوت عليه ما يفوت كما لا يخفى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ أي بالذي يفعلونه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، و‏{‏مَا‏}‏ إما عبارة عن الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسنداً إلى ضمير العقلاء لما أشرنا إليه أول الكلام، وأما عبارة عنها وعن التسبيح الخاص بالطير معاً أو عن تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ضمير العقلاء لما مر، والاعتراض حينئذٍ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل، وإما عبارة عن الأعم من الصلاة والتسبيح وغيرهما من الأفعال الصادرة عمن في السموات والأرض والأحوال العارضة له والاعتراض حينئذٍ مقرر لمضمون ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ‏}‏ أي الله تعالى صلاته وتسبيحه وأمر التعبير بالفعل والإسناد إلى ضمير العقلاء لا يخفى، ولتعدد الأوجه فيما مر تعددت الاحتمالات هنا فتأمل ولا تغفل‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ وسلام‏.‏ وهارون عن أبي عمرو ‏{‏تَفْعَلُونَ‏}‏ بتاء الخطاب، وفيه كما قيل وعيد وتخويف ولعل الظاهر أن الخطاب فيه للكفرة، وربما يجوز أن يكون ضمير الجمع على قراءة الجمهور لهم أيضاً على أن المراد بالجملة تخويفهم لإعراضهم عن تسبيحه تعالى بعد أن أخبر سبحانه عمن أخبر بأنه قد علم صلاته وتسبيحه، وهذا وإن كان بعيداً إلا أن في القراءة المذكورة نوع تأييد له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض‏}‏ لا لغيره تعالى استقلالاً أو اشتراكاً لأنه سبحانه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجاداً وإعداماً وإبداءاً وإعادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ أي إليه عز وجل خاصة لا إلى غيره أصلاً ‏{‏المصير‏}‏ أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المنتهى إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبتدأ، وقيل‏:‏ إن الجملة لبيان أن ما يرى من ظهور بعض الآثار على أيدي المخلوقات لا ينافي الحصر السابق بإفادة أن الانتهاء إليه تعالى لا إلى غيره ويكفي ذلك في الحصر ولعل الأول أولى، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً‏}‏ الخ كالتأكيد لما قبله والتنوير له والإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة، وقيل‏:‏ سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئاً بعد شيء على قلة وضعف، وقيل‏:‏ أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها، وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماءاً إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة، والمعنى كما في «البحر» يسوق سحابة إلى سحابة ‏{‏ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ‏}‏ بأن يوصل سحابة بسحابة، وقال غير واحد‏:‏ السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله‏:‏

بين الدخول فحومل *** واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جنس جمعي على ما سمعت‏.‏

وقرأ ورش عن نافع ‏{‏يُؤَلّفُ‏}‏ غير مهموز ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً‏}‏ أي متراكماً بعضه فوق بعض ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ أي المطر شديداً كان أو ضعيفاً إثر تراكمه وتكاثفه، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بجيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل، وقيل‏:‏ هو مفرد كحجاب وحجاز، وأيد بقراءة ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وابن زيد‏.‏ والضحاك‏.‏ ومعاذ العنبري عن أبي عمرو‏.‏ والزعفراني من ‏{‏خلله‏}‏ والمراد حينئذٍ الجنس، والجملة في موضع الحال من ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ لأن الرؤية بصرية، وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجاً لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏ ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى ‏{‏وَيُنَزّلُ مِنَ السماء‏}‏ أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلاً فيما ينزل بناءً على المشهور في سبب تكون البرد، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل ‏{‏مِن جِبَالٍ‏}‏ أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ والمراد بها قطع السحاب، ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في «الدرر» و«الغرر الرضوية» قول الأصبهاني‏:‏ إن الجبال ما جبله الله تعالى أي خلقه من البرد ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في السماء، والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بَرَدٍ‏}‏ وهو معروف، وسمي برداً لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ على أن من تبعيضية، وقيل‏:‏ زائدة على رأي الأخفش والأوليان لابتداء الغاية، والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو برداً‏.‏

وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر، وقيل‏:‏ من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل‏:‏ زائدة على رأي الأخفش أيضاً والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالاً كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد، وعن الأخفش إن ‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالاً برداً ومآله ينزل من السماء برداً‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيتهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ و‏{‏فِيهَا‏}‏ خبره والضمير من ‏{‏فِيهَا‏}‏ للجبال أي ينزل من السماء جبالاً في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره، وإما على أنه فاعل ‏{‏فِيهَا‏}‏ لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضاً‏.‏ والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازاً وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل‏:‏

إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى *** لها شاعراً مني أطب وأشعرا

وأكثر بيتاً شاعر ضربت له *** بطون جبال الشعر حتى تيسرا

ويقال‏:‏ عنده جبل من ذهب وجبل من علم، وعن مجاهد‏.‏ والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلة وبالجبال حقيقتها قالوا‏:‏ إن الله تعالى خلق في السماء جبالاً من برد كما خلق في الأرض جبالاً من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل، والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التس سمي بخاراً ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلاً إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعداً عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف بالتصاعد شيئاً فشيئاً فيرتكم منه سحاب فيقطر مطراً إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت برداً أو نزلت ثلجاً وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحاً اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحاً أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقداراً وقد ينعقد المطر برداً داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عندما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفاً فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع، وليس بحيث يصير سحاباً فيكون منه الطل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحاباً ويمطر بحاله، والحق أن كل ذلك مستند إلى إرادة الله عز وجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأساً بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال‏:‏ إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لا سيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس ‏{‏فَيُصِيبُ بِهِ‏}‏ أي بما ينزل من البرد ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه ‏{‏وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء‏}‏ أن يصرفه عنه فينجو من غائلته، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر‏.‏

وفي «البحر» يحتمل رجوعهما إلى ‏{‏الودق‏}‏ والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان اه وفيه بعد ومنع ظاهر‏.‏

‏{‏يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ‏}‏ أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما صمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏سناء‏}‏ ممدوداً ‏{‏سَنَا بَرْقِهِ‏}‏ بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة‏.‏ واللقمة، وعنه أيضاً أنه قرأ ‏{‏بَرْقِهِ‏}‏ بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في ‏{‏ظلمات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ والسناء ممدوداً بمعنى العلو وارتفاع الشأن، وهو هنا كناية عن قوة الضوء، وقرىء ‏{‏يَكَادُ سَنَا‏}‏ بإدغام الدال في السين ‏{‏يَذْهَبُ بالابصار‏}‏ أي يخطفها من فرط الإضارة وسرعة ورودها؛ وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث أنه توليد للضد من الضد‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏{‏يَذْهَبُ‏}‏ بضم الياء وكسر الهاء، وذهب الأخفش‏.‏ وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا‏:‏ لأن الباء تعاقب الهمزة، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية، وقد أخطآ في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضاً كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله‏:‏

فلثمت فاها قابضاً بقرونها *** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏يُقَلّبُ الله اليل والنهار‏}‏ بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه، وكأن الجملة على هذا استئناف لبيان الحكمة فيما مر، وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عز وجل لا يتعاصاه ما تقدم من الإجاء وما بعده، وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف العطف لقصد التعداد وهو كما ترى ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ إشارة إلى ما فصل آنفاً، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته ‏{‏لَعِبْرَةً‏}‏ لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي، ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة ‏{‏لاِوْلِى الابصار‏}‏ أي لكل من له بصيرة يراجعها ويعملها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه، والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة‏.‏

وتعقب بأنه يلزم عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء، واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏ وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشىء عند من دقق النظر من عدم الإتقان، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعاً آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا، وأشار إليه البيضاوي وغيره ولعل من اختار المتبادر راعى أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ‏}‏ أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك، وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن يدخلون في عموم الدابة، ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقاً ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت، والتاء فيها للنقل إلى الاسمية لا للتأنيث، وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏خالق‏}‏ اسم فاعل ‏{‏كُلَّ دَابَّةٍ‏}‏ بالجر بالإضافة ‏{‏مِن مَّاء‏}‏ هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي، وعلى الثاني للإفراد الشخصي‏.‏

وجوز أن يكون عليهما لذلك، وكلمة ‏{‏كُلٌّ‏}‏ على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة‏.‏ وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضاً بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار، وادعى أيضاً أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضاً وهو آدم‏.‏ وعيسى عليهما السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه، وجوز أن يعتبر العموم في ‏{‏كُلٌّ‏}‏ ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث، وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما روى أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق، وأياً ما كان فمن متعلقة بخلق، وقال القفال واستحسنه الإمام‏:‏ هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم ‏{‏كُلٌّ‏}‏ على ظاهره‏.‏

والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏ لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصاً أو نوعاً والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيء حي ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ‏}‏ كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشياً مع كونها زحفاً مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وإنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى، ويزيد ذلك حسناً ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين، ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ على رأي ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ‏}‏ كالإنس والطير ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ‏}‏ كالنعم والوحش‏.‏

والظاهر أن المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الاعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء‏}‏ أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً كان أو مركباً على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل‏.‏ وزعم الفلاسفة أن اعتماد ماله أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك‏.‏ وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآناً، وتذكير الضمير في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ لتغليب العقلاء، وبنى على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضى، وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في ‏{‏كُلَّ دَابَّةٍ‏}‏ وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن لا تغليب في ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط، وقد يقال‏:‏ لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر‏.‏ وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة؛ ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازاً كما توهم، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية، والإظهار في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضاً مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي‏.‏